*رياض درار
*المركز الكردي للدراسات
اتفاق 10 آذار، الذي تم توقيعه بين الرئيس السوري المؤقت أحمد الشرع وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، هو اتفاق سياسي مفصلي يُلزم الحكومة الجديدة في دمشق باتخاذ خطوات انتقالية تقود إلى المشاركة في السلطة وتمثيل عادل لكل السوريين، وضمان حقوق المكون الكردي وبقية المكونات ضمن اعتراف دستوري، وإصلاح أمني وإداري، ودمج مؤسسات الإدارة الذاتية المدنية والعسكرية في الدولة السورية، وعودة المهجّرين، وتمكين المجالس المحلية، والمشاركة وفق مبدأ الكفاءة بغض النظر عن الانتماء الطائفي أو العرقي.
لكن ما يحصل حالياً هو أن السلطة الجديدة تماطل في تطبيق بنود هذا الاتفاق، ولا يلوح في الأفق أية بوادر على وجود نية حقيقية لديها للالتزام الكامل ببنود الاتفاق المذكور، بل على العكس يبدو أنها تريد من هذا الاتفاق فقط كسب الوقت حتى تتمكن من إعادة ترتيب موازين القوى وتمكين نفوذها.
ولعلّ من الأسباب التي تحول دون إقدام هذه السلطة على القيام بمسؤولياتها إزاء اتفاق 10 آذار، هو أنها تتوجّس من تقاسم السلطة وبناء نظام حكم تشاركي ذي صبغة ديمقراطية، لما سيتمخّض عن ذلك من جملة نتائج، التي بالمجمل لن تكون في مصلحتها، وهي كالتالي:
*مشاركة قوى سياسية ومجتمعية ذات ثقل وتأثير في الحكم.
*تقليص نفوذ شبكات المصالح المحيطة بنظام الحكم الحالي.
*خضوع مؤسسات الأمن والقضاء لرقابة مستقلة.
فضلاً عن ذلك، فإن هناك مخاوف أخرى شتى تراود السلطات الحالية إذا تم تطبيق الاتفاق، وهي:
-الخوف من المساءلة والعدالة، لأن تطبيق الاتفاق قد يتطلب تالياً كشف ملفات فساد، وفتح ملف الانتهاكات، ومحاسبة أشخاص في السلطة أو من المقربين إليها، وهذه أمور من شأن تحقيقها أن تقود إلى سحب الحصانة من هذه السلطة وتعريضها للمساءلة القانونية.
-الخوف من فقدان الشرعية أمام قواعدها، لأن الإسراع في تطبيق بنود الاتفاق قد يُفسّر من قبل الموالين لهذه السلطة على أنه تقديم لتنازلات كبيرة تحت الضغط الداخلي أو الخارجي، وتراجع عن الخطاب السياسي المعتاد، وهذا يعني حدوث فجوة بين السلطة وجمهورها، وهذا أكثر ما تخشاه هذه السلطة في الوقت الحالي، وهي تعلم جيداً أنه لا يمكنها أبداً المجازفة في هذا المنحى.
-الخوف من تغيير المعادلة الأمنية، فبما أن الاتفاق يتضمن أموراً من قبيل دمج قوات سوريا الديمقراطية في الجيش السوري الجديد، وإعادة هيكلة أمنية، والانتشار المشترك للقوات، فهذا يعني أن السلطة الحالية لن تبقى محتكرة للسلاح، وهي التي تعتبر هذا الأمر ميزة، فقدانها يعني التهديد المباشر لهيمنتها. ولذلك فإن جلّ ما تسعى إليه حالياً هو كسب الوقت على أمل أن تتغير الظروف الإقليمية والدولية لصالحها.
-الخوف من أن يشكّل الاتفاق «مرحلة أولى» تُجرّهم إلى تنازلات أكبر، أي خطوة أولى قد تفتح الباب لمطالبات جديدة: مؤتمر وطني موسّع، انتخابات برلمانية حقيقية، صلاحيات أوسع للمجالس المحلية، ورقابة أقوى على الحكومة.
هذه هي الهواجس والمخاوف المرجّح أنها تراود السلطات الحالية، وهذا ما يمكن استشفافه من خطابها والممارسات اليومية التي تقوم بها.
وفي مقابل محاولات التملّص من الاتفاق والمماطلة في تطبيق البنود الواردة فيه، فإنه يتحتم على الطرف الآخر العمل بكافة المستويات، وممارسة الضغوط المستوجب ممارستها لكي يرى الاتفاق النور، وذلك عبر حزمة متكاملة من الأدوات:
1- خلق إجماع وطني واسع خلف الاتفاق، فكلما اتسعت الجبهة المؤيدة للاتفاق، تصبح السلطة أكثر عزلة، وأقل قدرة على خلق سردية بديلة، وأكثر عرضة لاتهامات تقويض التوافق الوطني. وهنا من الجدير التذكير بأن تفعيل عوامل وآليات الرفض الداخلي يبقى أهم وأنجع من أي ضغط خارجي.
2- الضغط الجماهيري المنظّم، ليس عبر الاحتجاج العشوائي، بل عبر حملات شعبية منسّقة، مثل إصدار البيانات باسم القوى السياسية الفاعلة والنقابات والمؤسسات المجتمعية، والتحرك عن طريق المجالس المحلية والمدنية، فضلاً عن إعطاء أولوية قصوى لوسائل الإعلام والنخب الثقافية. فأي سلطة انتقالية تخشى الغضب الشعبي المنظّم لأنه يمسّ شرعيتها بشكل مباشر.
3- تفعيل أدوات المجتمع المدني، فالمجتمع المدني قادر على الضغط من خلال مراقبة تنفيذ الاتفاق، وكشف عوامل وأسباب تأخير تطبيقه للرأي العام، ونشر تقارير دورية بذلك، وهذا من شأنه أن يشكل ضغطاً مهماً للغاية لكونه يتصل مباشرة بمسألة الشفافية التي يكرهها أي نظام غير ديمقراطي لأنها تنال من قدرته على الحركة ما وراء الكواليس.
4- الضغط الدولي المشروط، مع الأخذ في الاعتبار أنه ليس كل ضغط خارجي مفيداً، وعليه فالضغط المطلوب هو ذلك المشروط بتنفيذ اتفاق وطني، والمبني على قرار داخلي جامع، وغير المرتبط بأجندات تدخّلية، وفقط على هذا النحو يمكنه أن يساهم في تقييد تحركات السلطة الحالية، التي جلّ ما تخشاه في الوقت الراهن هو العزلة وفقدان الدعم الخارجي.
5- استخدام أدوات الزمن ضدها، فبما أنه يتم وضع أُطر زمنية للاتفاقيات المبرمة بين الأطراف، فإنه من الضروري أن يعلم الرأي العام أن السلطة الحالية في دمشق هي التي تماطل في تطبيق الاتفاق. بهذا الشكل سوف تتآكل شرعية هذه السلطة، ويتم طرح البدائل السياسية، وتُسقط عنها كذلك الأقنعة أمام الداخل والخارج.
والآن، وباختصار شديد، يمكن تحديد الكلفة المتوجبة على السلطة الحالية في حال تنفيذ الاتفاق في ثلاثة مستويات:
1- كلفة سلطوية: خسارة احتكار القرار، ودخول فاعلين آخرين في الحكم، واحتمال حدوث شرخ داخل الكتلة الحاكمة.
2- كلفة أمنية وقضائية: فقدان السيطرة على أجهزة السلطة، وتعرض بعض المسؤولين الحاليين للمساءلة أو إعادة الفرز، وانتهاء الحصانة غير المعلنة.
3- كلفة سياسية: الاعتراف بأن البلد يحتاج إلى شراكة حقيقية، وتراجع مكانة السلطة كـ «الطرف الأقوى»، وارتفاع سقف المطالب اللاحقة من المعارضة والمجتمع.
وأما في حال أصبحت الموازين الداخلية والخارجية أقوى من قدرة هذه السلطة على المماطلة، فمن المرجّح أن تلجأ إلى الخيارات التالية:
1- التنفيذ الانتقائي، وذلك بالعمل على تطبيق البنود التي لا ترى فيها خطراً حقيقياً على نفوذها ومصالحها، في مقابل تأخير تلك التي تتطلب إحداث تغيير جوهري في بنية النظام الحالي.
2- إعادة تفسير الاتفاق، أو بعض البنود الواردة فيه، كمحاولاتهم الحالية فيما يتعلق بالبند المتعلق بدمج قوات سوريا الديمقراطية.
3- التفاوض على تعديلات لتخفيف آثار الاتفاق عليها.
4- محاولة إعادة إنتاج نفوذها داخل البُنى الجديدة، في حال لو اضطرت تحت الضغط إلى تنفيذ بنود الاتفاق.
ولضمان التنفيذ الحقيقي لهذا الاتفاق فإنه يتطلب كما أسلفنا وباختصار:
1- خلق ائتلاف ضاغط موحّد حول الاتفاق.
2- تثبيت جدول زمني واضح، معلن ومراقَب.
3- إطلاق أدوات ضغط جماهيرية مدروسة لا فوضوية.
4- رفع كلفة المماطلة سياسياً وإعلامياً.
5- عدم الوقوع في فخّ الاستقطاب الطائفي.
أخيراً،
إن مجمل المعطيات المتوفرة حالياً تشي بأن سلطة دمشق ليست في وارد الالتزام بمسؤولياتها حيال اتفاق العاشر من آذار. هذا يبدو جلياً من خلال تصريحاتها وممارساتها على الأرض، ومنها عزوفها المتواصل عن الإقدام على الخطوات المطلوبة التي من شأنها أن تجعل الاتفاق يرى النور. وما من شكّ في أنها تراودها أحلام بأن اللحظة المناسبة لا شكّ ستأتي حيث يمكنها الانقضاض على الاتفاق، وتالياً إحكام قبضتها على كامل الجغرافية السورية. ولهذا فإنه من غير المنطقي انتظار أن تقدم هذه السلطة على الشروع في تنفيذ الاتفاق طواعية ومن تلقاء نفسها، بل على العكس يتوجب على الطرف الآخر، جميع القوى السورية المؤيدة للاتفاق والتي ترى فيه مستقبلها ومصلحتها، أن تتحرك بكفاءة وفعالية لوضع السلطة الحالية أمام مسؤولياتها إزاء الاتفاق، وإرغامها على تنفيذه بعيداً عن سياسة المراوغة والخداع.