*فرست عبدالرحمن مصطفى
في بلادٍ لا تكمل سنينها عدتها، صار التقويم مجرد ورق معلق على الجدران لا يطابق حياة الناس ولا جيوبهم. فالسنة هنا لا تعرف اثني عشر شهرا بل تعثر عند العاشر ثم تسقط، وكأنها تتعب قبل أن تصل إلى نهايتها… أو كأن السلطة تعيد قصها في كل مرة لتناسب مقاس ميزانيات مثقوبة.
الراتب في هذا الوطن ليس دخلا بل موعدٌ غامض يشبه انتظار المطر في صيفٍ لا ينتهي. وبينما تتفاخر الدول بتقويمات دقيقة، يعيش المواطن عندنا في تقويمٍ مائل شهرٌ يقتطع منه أسبوع عندما الحكومة تطلب، وآخر يمدد حتى يصبح أربعين يوما عندما الحكومة مطالبة، وكأن الأيام نفسها تساق بالعصا.
السلطة هنا لا تحكم فقط، بل تعيد هندسة الزمن.
تؤجل أيام الناس وتسرق أعمارهم وتقدم لهم فتاتا لا يكفي حتى ليشتروا الصبر. لقد باتت قسوة السلطة تقاس بعدد الأيام التي ينتظر فيها المواطن راتبا لا يصل وعدد المرات التي ينزل فيها إلى السوق ثم يعود خالي اليدين وعدد الليالي التي ينام فيها وهو يحسب الخارطة المالية لشهرٍ لا يشبه شهور البشر.
ومع الوقت… لم ينهر اقتصاد الشعب فقط، بل انهارت معنوياته.
صار اليأس عادة يومية والخذلان مرآة يحدق فيها الجميع. والغريب أن الناس اعتادوا ذلك، يتعايشون مع الظلم كما يتعايش المرء مع مرض مزمن لا يميت لكنه يمنع الحياة.
المؤلم أن أخطر ما فعلته السلطة ليس سرقة المال، ولا إفقار البلاد، بل سرقة الإحساس بالزمن. لم يعد المواطن يشعر بأنه يتقدم في العمر، بل يتآكل. لم يعد ينتظر المناسبات بل يتجاوزها متشائما. حتى الأمل نفسه أصبح مؤجلا إلى إشعارٍ غير محدد.
وهكذا صار الشعب يشيخ قبل أوانه، وتشيخ البلاد معه، بينما تبقى السلطة شابة دائما… لأنها تتغذى على أعمار الناس، وتستمد ديمومتها من أعوامهم الناقصة.
وفي النهاية يبدو أننا لا نعيش في وطن ناقص الخدمات فقط بل في وطن ناقص السنوات. وطن يقاس فيه الزمن بكمية الصبر لا بعدد الشهور.