×


  تركيا و الملف الکردي

  اوجلان: الاندماج الديمقراطي سيحول تركيا إلى دولة قانون



رسالة اوجلان إلى المؤتمر الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي في إسطنبول

وجه عبدالله أوجلان رسالة إلى المؤتمر الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي في إسطنبول، تلاها الأسير السياسي السابق فيسي أكتاش، وجاء فيها:

 

أيها المفكرون الموقرون،

 الرفاق الأعزاء، المندوبون الكرام، وكل من يؤمن أن الاشتراكية ما تزال ممكنة؛

أتوجه إليكم بنداء في ظل عملية إعادة التفاوض مع الدولة بحثا عن السلام والمجتمع الديمقراطي في القضية الكردية بتركيا، وأنا في ظروف عزلة تامة منذ 26 عاما. إن مخاطبتكم اليوم ضمن المؤتمر الدولي للسلام والمجتمع الديمقراطي، في الطريق نحو إعادة بناء الاشتراكية، أمرٌ ذو قيمة ومعنى كبيرين بالنسبة لي.

لقد أنهينا نحن الكرد نضال 52 عاما من أجل الوجود والكرامة من خلال تجربة حزب العمال الكردستاني (PKK)، ودخلنا اليوم مرحلة جديدة لإعادة تأسيس الجمهورية الديمقراطية والمجتمع الديمقراطي. لقد أدى الحزب مهمته التاريخية في ضمان الوجود القومي للشعب الكردي، وفي الوقت ذاته كشف مأزق الاشتراكية القومية ـ دولة الأمة. اشتراكية القرن العشرين ظهرت كتجربة ثورية سلبية لم تتمكن من تقديم بديل جديد.

وفي حقبة هرب فيها كثيرون من الاشتراكية بعد التسعينيات، كرست حياتي كلها لإحياء هذا الأمل عبر مقولتي: "الإصرار على الاشتراكية هو الإصرار على إنسانيتنا". وقد أصبح هذا النضال، رغم تكلفته الباهظة، إرثا نظريا وعمليا ثقيلا. وحسن امتلاك هذا الإرث يفرض أن نخرج الاشتراكية من كونها نصبا جامدا إلى قوة اجتماعية حية تنبض بين الناس.

يجب النظر إلى التراث الاشتراكي في التاريخ باعتباره رصيدا لإعادة بناء السلام والمجتمع الديمقراطي، والطريق لذلك يمر عبر أداء الواجبات الأممية نظريا وتطبيقيا. فحتى الاشتراكيين الطوباويين والماركسيين، رغم نقدهم الواسع للمنظومة الرأسمالية المهيمنة على مدى قرون، لم ينجحوا في صياغة خط يحقق نتائج ملموسة. إن الرأسمالية اليوم لم تعد مجرد أزمة، بل تحولت إلى مرض يهدد النوع البشري. أما احتكار العنف عبر نموذج دولة الأمة فهو العامل الحاسم في هذا التدهور.

وكما لا يمكن تفسير الرأسمالية بأسباب اقتصادية فحسب، لا يمكن أيضا تعليق فشل التيارات الاشتراكية على أسباب القمع الرأسمالي وحده؛ فالأخطاء التاريخية والراهنة كان لها دور حاسم في التراجع.

 ويجب فهم انتقاداتي للماركسية بشكل صحيح. أنا لا أحمل ماركس نفسه المسؤولية؛ فزمانه لم يكن مكشوفا فكريا كما اليوم، ولم تكن هناك أزمة بيئية واضحة، وكانت الرأسمالية في طور الصعود. ورغم ذلك كان ماركس مفكرا واثقا، يراجع أفكاره باستمرار. لقد رأى حرية المرأة، لكنه اعتقد أن تجاوز الاستغلال الاقتصادي وحده كافٍ لتحريرها، وهذا ناتج عن قراءة سطحية لم تدرك عمق المسألة. إن محاولة تفسير التاريخ الاجتماعي عبر الطبقة فقط، والعجز عن فهم الدولة ودولة الأمة بعمق، خلفا نتائج خطيرة.

وأؤكد، وأنا أوجه النقد، أنني أحترم ماركس وأفصله عن الماركسية لاحقة التطبيق. وحده النقد الجذري يمنحنا القدرة على استعادة الاشتراكية كقوة إنسانية.

على قوى التغيير أن تعيد قراءة المادية التاريخية بما ينسجم مع واقع المجتمع الإنساني. فالرأسمالية ـ خلاف الاعتقاد الشائع ـ لم تولد في القرن السادس عشر من فراغ، بل تمتد جذورها إلى 10–12 ألف عام من تطور الحضارة في ميزوبوتاميا السفلى.

وإن مواقع كـ"غوبكلي تبه" و"قره هن تبه" تكشف بدايات هذا المسار. ولهذا أرى أن التوصيف الأدق للحضارة السائدة هو: "نظام الكاست الاجتماعي القاتل". وتثبت المعطيات الأركيولوجية والأنثروبولوجية أن طبقات الصيادين الذكور قمعت وأخضعت مجتمعات أمومية ـ عشائرية عبر تقنيات القتل، وهو الانقسام الأكثر جذرية في التاريخ البشري، بل هو ثورة مضادة كبرى شكلت مسار الحضارة اللاحق.

إن تفكيك الرأسمالية من منظور تاريخي عميق يكشف آفاقا جديدة؛ فالنظام الحالي لا يغذي الصراع الاجتماعي فقط، بل يقود إلى إبادة النوع البشري عبر السلاح النووي والكيماوي، وتدمير المناخ، ونهب الموارد. والوعي بهذه الحقيقة يجعل تقديم بديل اشتراكي جديد للبشرية مهمة أممية أساسية.

قبل الحديث عن الطبقات، يجب دراسة تاريخ المقهورين بوصفه مسارا دفاعيا مشتركا. نحن بحاجة إلى رؤية تاريخية ترى في القبائل البدائية جذر المجتمع المشترك، وصولا إلى البروليتاريا أو سائر الفئات المضطهدة. ومن هنا نقول إن التاريخ ليس صراع طبقات فقط، بل علاقة وصراع بين نزعتين: المشاعية والمضادة للمشاعية منذ ما يقارب 30 ألف عام.

أعتقد أن مؤتمركم هذا سيفتح نقاشات مهمة تسهم في أجندة سياسية جديدة وفي بناء فهم تنظيمي مستند إلى الحلول النظرية المقدمة. والأسلوب المنهجي في هذا المسار هو الديالكتيك المادي، لكن ينبغي تجاوز التطرف في الديالكتيك الكلاسيكي؛ فالتناقضات ليست نهايات متصارعة تسعى لإلغاء بعضها، بل ظواهر اجتماعية متبادلة التأثير. فلا دولة بلا كومونات، ولا برجوازية بلا بروليتاريا. لذا يجب التعامل مع التناقض كحركة تحول تاريخي لا كصراع تدميري.

تدل العلوم الحديثة أيضا على أن المنهج الديالكتيكي لا يزال فعالا في الحلول الاجتماعية إذا لم يحول إلى مطلق. ويجب تحديث جدلية المجتمع–الدولة والطبقة–الدولة. وقد فشل "الاشتراكية الواقعية" في القرن العشرين لأنها احتلت الدولة ثم انهزمت أمام الدولة ذاتها. أما "دولة الأمة البروليتارية" فلم تنتج سوى إعادة إنتاج الذهنية الدولتية.

وقد قلت سابقا: الاشتراكية القائمة على دولة الأمة محكومة بالفشل، بينما الاشتراكية الديمقراطية تقود إلى النجاح. واليوم هو زمن السير نحو التحرر الديمقراطي عبر الاشتراكية الديمقراطية.

أسير في هذا الطريق بإيمان أننا سننجح في إعادة البناء عبر منظومة المجتمع الديمقراطي ـ البيئي ـ المحرر للمرأة بديلا عن الدولة، ورؤية الجمهورية الديمقراطية والأمة الديمقراطية.

لقد قادت هذه الرؤية إلى تجديد فكري وسياسي داخل حركتنا، وحيوية تنظيمية، وتوسع شعبي، وصولا إلى برنامج اشتراكي يستجيب لاحتياجات العصر.

إن علاقة الاشتراكية الديمقراطية بالدولة تعاد صياغتها أيضا ضمن مسار الحل والسلام. وأعرف علاقتي بالدولة على أنها علاقة ديمقَرة؛ فالجمهورية الديمقراطية تستوجب أن لا تكون الدولة قوة فوق المجتمع، بل جهازا يعمل ضمن عقد ديمقراطي مع المجتمع. ويمكن إحداث التغيير في الدولة عبر استراتيجية سياسية ديمقراطية، وإعادة بناء المجتمع على أسس ديمقراطية.

وعندما تؤسس هذه الاستراتيجية قانونيا سيقوم عليها سلام مستدام. فالقانون أداة الحل التي تمنع العنف وتحفظ التوازن في العلاقة بين الدولة والمجتمع. كما يشكل أساس شرعية الجمهورية الديمقراطية وإعادة بناء النظام الاجتماعي.

وقد طرحت مفهوم الاندماج الديمقراطي كمنهج نضالي أساسي، ويقوم قانون الاندماج الديمقراطي على ثلاث ركائز تبنى فيها القوانين وفق المعايير الفردية والكونية والحقوق الجماعية:

• قانون المواطن الحر

• قانون السلام والمجتمع الديمقراطي

• قوانين الحرية

قانون الاندماج الديمقراطي سيحول الدولة إلى دولة قانون، وفي الوقت نفسه يمنح المجتمع وجودا مؤسسيا وحريته. إن "نداء السلام والمجتمع الديمقراطي" الذي أطلقته هو عملية حوار؛ ففي الشرق الأوسط بتنوع قومياته وأديانه ومذاهبه، يمكن إنجاز الكثير عبر الحوار والتفاوض الديمقراطي. وأرى من المناسب أن تقوم الاشتراكية اليوم على بناء منظومة إيجابية ومنظمة عبر الحوار الديمقراطي بدل النموذج الثوري العنيف؛ إذ يصعب تصور بناء الاشتراكية دون حوار ديمقراطي شامل وعميق.

وقد قال لينين أيضا: "لا يمكن بناء الاشتراكية دون ديمقراطية شاملة ومتطورة".

بهذا الأمل والإيمان، أتمنى التوفيق لاجتماعكم، وأبعث بتحياتي ومحبتي الرفاقية.

 

عبدالله أوجلان

جزيرة إمرالي

6/12/2025


07/12/2025