نرمين عثمان محمد:
هناك نساءٌ لم يسعين إلى دخول التاريخ، لكن التاريخ فُتح لهن أبوابه احتراما لنضالهن وعطائهن، ومن بين هؤلاء تتقدم السيدة هيرو إبراهيم أحمد – أو كما يحب الجميع أن ينادوها بـ "دادة هيرو".
هذه المرأة التي كانت دائما حضنا صامتا ومفتوحا، احتمى بظله العدو قبل الصديق، وشعر فيه الجميع بالأمان والطمأنينة. كانت تردد دائما أن «قدر مشاريعها أن تبقى على النار»، وقد طبقت ذلك حرفيا؛ فكل ما سعت إليه ظل مشتعلا بالحياة والعمل والإصرار.
كانت تحلم بالجمال كما تحلم بالإعمار، وتضع حماية تاريخ وتراث الأمة الكردية في مقدمة أولوياتها. وبين مبادئها الراسخة وأحلامها الإنسانية، ظلت "دادة هيرو" أقرب إلى الناس العاديين: باعة الأسواق، الفنانين، الكُتاب، الحرفيين… أكثر من قربها إلى السياسيين. كانت صديقة للقلب الشعبي قبل أن تكون اسما في السجلات السياسية.
بدأ عطاء هيرو خان منذ أيام النضال الأولى إلى جانب البيشمركة، حين امتلكت شجاعة قل نظيرها في أرشفة مسيرة الكفاح الكردي وتوثيق الانتهاكات التي تعرضت لها القرى الكردية. كانت تحمل كاميرا الـVHS على كتفها، وتتنقل بين مواقع القصف والدمار لتوثق اللحظات التي حاول النظام البعثي طمسها. تلك اللقطات خرجت لاحقا إلى العالم، لتصبح مادة إعلامية دامغة تُدين جرائم القمع وتكشف الحقيقة كما هي بلا رتوش.
وبعد الانتفاضة، لم تتوقف هيرو خان عن العطاء، بل امتد شغفها بالمشروع الوطني إلى ميادين جديدة. وكانت من أبرز إنجازاتها مبادرتها التاريخية للحفاظ على مبنى الأمن العامة في السليمانية، أو “الأمن الأحمر” كما عرفه الناس؛ ذلك المكان الذي تحول – بفضل رؤيتها وإصرارها – إلى متحف وطني يوثق مراحل النضال المدني السري، ويعرض أساليب التعذيب التي استخدمها النظام ضد أعضاء التنظيمات السرية. لقد كان هذا المشروع استمرارا طبيعيا لمرحلة النضال الأولى التي وثقتها هيرو خان بعدسة كاميرتها، لكنه جاء هذه المرة أكثر نضجا، وأكثر قدرة على حفظ الذاكرة الجمعية للشعب الكردي.
وفي عام 1991 أسست هيرو خان منظمة (حماية الطفل-ksc) (Kurdistan Save the Children ) ، وهي مؤسسة خيرية رائدة عملت في مجالات متعددة تشمل: التوعية الاجتماعية، رعاية الأيتام واللاجئين، مساعدة العائلات الفقيرة، توفير المأوى والتعليم لأطفال الشوارع، إضافة إلى إنشاء مراكز صحية وتعليمية وثقافية تقدم خدمات مستمرة للمجتمع.
وخلال ما يقارب ثلاثة عقود ونصف من العمل، وحتى عام 2025، بقيت "KSC" واحدة من أبرز المؤسسات الإنسانية في كردستان والعراق، وقدمت الدعم لآلاف الأطفال والعائلات المتضررة من الحروب والأزمات.
ورغم انشغالها بمهامها خلال السنوات التسع التي شغلت فيها منصب "سيدة العراق الأولى"، لم تتخل هيرو خان يوما عن نشاطها وعطائها داخل صفوف الاتحاد الوطني الكردستاني. بل ظلت حاضرة وفاعلة في كل مفاصل الحزب، إلى أن تم انتخابها عضوة في القيادة السياسية للاتحاد، في اعتراف واضح بدورها، وبثقلها النضالي والإنساني الممتد منذ أيام الثورة الأولى.
وبفضل عطائها الدائم ونشاطها الدؤوب، استطاعت هيرو خان – منذ عام 2010، وبعد رحيل الرئيس جلال الطالباني – أن تحافظ على حضورها المؤثر داخل الاتحاد الوطني الكردستاني، فأسهمت في حماية وحدة الحزب وتماسك صفوفه في أصعب المراحل. أما خارج الحزب، فقد واصلت استخدام منابرها الإعلامية والإنسانية للدفاع عن القضايا الكردية، وترسيخ فكرة وحدة البيت الكردي، والتأكيد على الدور المحوري للمرأة في المجتمع.
وبعد هذا الاستعراض الموجز لأبرز محطات عطائها، يمكن القول إن هيرو خان أصبحت إرثا وطنيا مهما في كردستان والعراق؛ إرثا صُنع من سخاء العطاء في ساحات المقاومة والنضال، ومن مساهماتها في توثيق وأرشفة مسيرة الشعب الكردي والاتحاد الوطني الكردستاني، ومن حضورها الفعال في ميادين الثقافة والإعلام والعمل الإنساني والاجتماعي.
لكن الأهم من كل ذلك، أنها قدمت نموذجا ملهما لتمثيل المرأة الكردية في أعلى دوائر القرار، فأثبتت أن الصوت النسوي قادرٌ على أن يصنع تاريخا ويقود مجتمعا ويلهم أجيالا.
وبعد كل هذا العطاء الغزير والزاهر، يحق لنا أن نقول، وبكل فخر وامتنان:شكرا لكل ما قدمتِه "دادە هيرو"… شكرا لعطائكِ الذي أثمر وبقي.