*الباحث لزكين إبراهيم
*مركز الفرات للدراسات:
تشهد السياسة الأمريكية في سوريا بعد سقوط الأسد مرحلة جديدة من إعادة التموضع الاستراتيجي، تعكس تحوّلا نوعيا في منهج إدارة النفوذ. فقد انتقلت واشنطن من منطق التدخل العسكري المباشر إلى منهجية تقوم على “الهندسة الهادئة للتوازنات”، حيث تعمل على إعادة صياغة المشهد السوري من خلال تحالفات وشراكات محلية وإقليمية، دون الانسحاب الكامل من مسرح الصراع. وتتمثل الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في دمج سوريا وقواتها المحلية ضمن التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وخلق شبكة تحالفات إقليمية ودولية تتيح لها ضبط التوازنات داخليا وخارجيا، مع الاستفادة من القوى المحلية كشركاء في إدارة الأمن والسياسة، بما يضمن بقاء النفوذ الأمريكي على المدى طويل.
المقاربة الأمريكية الجديدة “إعادة هندسة التوازنات وتثبيت النفوذ”
دخل المشهد السوري في خريف 2025 مرحلة جديدة من إعادة هندسة التوازنات الذي يسمح لواشنطن بإدارة التحول السياسي والأمني في سوريا وشمال وشرق البلاد. إذ كثفت من تقديم الدعم العسكري واللوجستي لقوات سوريا الديمقراطية، الحليف الأكثر موثوقية لدى التحالف الدولي في محاربة خلايا تنظيم داعش، مع تدريبات موسعة في قسرك، والشّدّادي، وخراب الجير، وفق ما رصده المرصد السوري لحقوق الإنسان. ما يؤكد أنّ واشنطن تعمل على تحويل طبيعة حضورها من سيطرة ميدانية مباشرة إلى إدارة غير مباشرة للصراع عبر شركاء محليين، بما يتيح لها الحفاظ على اليد العليا في رسم مستقبل سوريا دون دفع كلفة الانخراط المباشر.
ويتقاطع هذا النهج مع التحولات السياسية في دمشق، من حيث إفساح المجال أمام دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن بنية الجيش الوطني السوري الجديد، في سياق تسوية توازن مصالح الأطراف المحلية، مع الحفاظ على الاستقرار النسبي، ما يعكس استراتيجية واشنطن في تحويل حضورها العسكري المكشوف إلى نفوذ مؤسسي مقنّن داخل الهياكل الأمنية والسياسية الناشئة، بما يضمن دمج شركائها المحليين ضمن الدولة الوليدة دون صدام مباشر مع السلطة الجديدة برئاسة أحمد الشرع.
وتشير التحليلات الأمريكية الصادرة في عام 2025 عن مراكز دراسات مثل RUSI ومعهد واشنطن إلى أنّ السياسة الأمريكية الجديدة لا تسعى لتفكيك سوريا، بل إعادة دمجها تدريجيا تحت رقابة أمريكية دقيقة. فالضغط على قسد للانخراط في مؤسسات الدولة، مع الحفاظ على استقلالية إدارية سياسية محدودة، يمثل ترجمة لرؤية واشنطن في “الاحتواء عبر الإدماج”، أي تحويل الخصوم السابقين إلى شركاء وظيفيين داخل منظومة الدولة.
ووفق تلك المراكز الامريكية أنه حتى زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو كانت بدورها جزءا من هندسة لمعادلة التوازن. فواشنطن، التي سمحت ضمنيا بهذه الزيارة، لا ترى في انخراط موسكو السياسي تهديدا مباشرا لمصالحها، بل وسيلة لتقييد الدور الروسي ضمن حدود مقبولة. لقد تبنّت الإدارة الأمريكية ما يمكن وصفه بسياسة “الاحتواء المرن”، التي تتيح لموسكو الحفاظ على رمزية وجودها السياسي دون تمكينها من إعادة بناء نفوذها العسكري أو الاقتصادي السابق. وهنا يظهر البعد الأعمق للمقاربة الأمريكية: الإبقاء على حالة الاستقرار المراقَب، بما يمنع الفراغ الاستراتيجي الذي قد تتسلل منه إيران أو تنشط عبره تركيا، ويضمن في الوقت ذاته استمرار سوريا في موقعها كمسرح نفوذ متوازن لا كجبهة مفتوحة.
أهداف ضم سوريا للتحالف الدولي
تبدو المحاولة الأمريكية الأخيرة بضم حكومة دمشق الجديدة إلى التحالف الدولي لمحاربة تنظيم داعش تحوّلا بالغ الدلالة في هندسة المقاربة الأمريكية للملف السوري، إذ لا يمكن قراءتها من زاوية عسكرية بحتة بقدر ما هي محاولة سياسية مركّبة تهدف إلى شرعنة الوجود الأمريكي طويل الأمد في سوريا، فمن الواضح أن واشنطن لم تعد تتعامل مع سوريا كأرض صراع بعد قطع يد إيران عنها، بل كمساحة إعادة تموضع استراتيجي تسعى من خلالها إلى تثبيت حضورها كضامن إقليمي للتوازن بين القوى الفاعلة وخاصة بين تركيا وإسرائيل، مستفيدة من التحولات التي رافقت صعود حكومة أحمد الشرع بوصفها واجهة سياسية جديدة مقبولة نسبيا لدى واشنطن والمجتمع الدولي.
كما أنّ ضم دمشق إلى التحالف الدولي يشكّل بالنسبة للولايات المتحدة مدخلا لبناء منظومة شراكة استخباراتية، وأمنية، ويمنحها قدرة مضاعفة على مراقبة النشاطات الجهادية داخل العمق السوري دون الحاجة إلى زيادة انتشار القواعد الأمريكية الميدانية، والاكتفاء بقاعدة مركزية قد تكون وسط البلاد أو حول دمشق، خصوصا أنّ الجزء الأكبر من خلايا التنظيم يتمركز اليوم في البادية ومحيط حمص وحلب، وهي مناطق تقع ضمن سيطرة الحكومة الجديدة.
لكنّ الهدف الأعمق من ضم سوريا للتحالف قد يتجاوز مكافحة الإرهاب إلى تثبيت الوجود الأمريكي داخل سوريا بغطاء قانوني ورسمي، فواشنطن التي أدركت مأزق الشرعية القانونية في تجربتها العراقية، تسعى هذه المرّة إلى ترسيخ وجودها العسكري عبر اتفاقات رسمية تتيح لها بناء قواعد حول دمشق تحت شعار “الشراكة في الحرب ضد الإرهاب”. إنها خطوة ذكية لتحويل الوجود الأمريكي من حالة استثناء عسكرية إلى حالة تحالف دولي دائم، بما يمنحها القدرة على إدارة المشهد السوري من الداخل لا من الأطراف، وتحديدا من مركز القرار في دمشق.
في هذا الإطار، يمكن قراءة رفع اسم أحمد الشرع وعدد من مسؤولي حكومته من لوائح العقوبات والإرهاب، كخطوة تمهيدية لترسيخ هذه الشراكة، فالإدارة الأمريكية تدرك أن أيّة شراكة استخباراتية، أو أمنية مع دمشق تستوجب تحييدها عن قوائم العزل الدولي، ومن ثم تهيئتها لتكون طرفا مقبولا في التحالف الجديد. وبذلك تتحول حكومة الشرع إلى شريك سياسي وأمني في منظومة التحالف، ما يمنحها حماية أمريكية غير مباشرة من أيّة تهديدات داخلية أو محاولات انقلابية، سواء من الفصائل الجهادية أو القوى الجهادية الأجنبية التي ما زالت تنشط في الشمال والغرب السوري.
ولا يقتصر الهدف الأمريكي من ذلك على الداخل السوري، بل يمتد إلى إعادة صياغة خريطة النفوذ الإقليمي. فواشنطن تسعى عبر هذا الانضمام إلى هندسة مسار جديد للتطبيع بين دمشق وإسرائيل، بما يمهّد لانخراط سوريا لاحقا في الاتفاقيات الإبراهيمية. ويبدو أن التصريحات التي صدرت عن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي أشار فيها إلى رفع العقوبات عن سوريا بطلب من إسرائيل وتركيا، كانت جزءا من تمهيد سياسي لتقديم إسرائيل كضامن للاستقرار في الجنوب السوري، وتركيا كوسيط محتمل في أي حوار مستقبلي بين دمشق وتل أبيب. بهذا الشكل، تحاول واشنطن فرض معادلة نفوذ مزدوجة؛ تركيا في الشمال، إسرائيل في الجنوب، وأمريكا في الوسط كضامن رئيسي للتوازن.
دور قسد ما بعد انضمام سوريا إلى التحالف
على المستوى الميداني، يبدو أنّ واشنطن تسعى إلى توظيف هذا التحالف في بناء قنوات تواصل مباشرة بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السورية الجديدة، ضمن إطار موحّد للتنسيق تحت راية التحالف الدولي. وتشير المعلومات إلى وجود تحضيرات لتشكيل وحدات خاصة مشتركة بين الجانبين، ستكون مهمتها الأساسية ملاحقة خلايا داعش، وتنفيذ عمليات نوعية في العمق السوري، بإشراف وتدريب من قوات التحالف. هذا التنسيق لا يعني بأي حال أن واشنطن تعوّل على حكومة الشرع بشكل كامل في محاربة التنظيم، بل تؤكد كل المؤشرات أنّ قسد ستظل رأس الحربة الرئيسية في استراتيجية مكافحة الإرهاب، كونها القوة الأكثر مهنيّة وتنظيما.
فالتحالف الدولي، منذ أكثر من عقد، بنى علاقته مع قسد على قاعدة الثقة والفاعلية العملياتية، في حين أنّ الأجهزة العسكرية والأمنية التابعة لحكومة الشرع لا تزال تحمل في بنيتها الفكرية والميدانية جذورا جهادية واضحة، ما يجعلها غير مؤهلة لتكون بديلا لقسد أو شريكا موثوقا في الحرب ضد داعش. فالبنية الجهادية التي تشكّل نواة الجيش والأجهزة الأمنية الجديدة ستجد صعوبة في التكيف مع واقع التحالف مع واشنطن، وقد تشهد الفترة المقبلة انقساماتٍ داخلية حادة بين فصائل ترى في الانضمام إلى التحالف خيانة للمسلمين، وأخرى تعتبره ضرورة لحماية “الدولة” من التفكّك. كما أنّ الشّرع، الذي لا يملك السيطرة الكاملة على جميع الفصائل المنضوية تحت سقف وزارة الدفاع السورية، يواجه تحديا حقيقيا في ضبط الفصائل المرتبطة بتركيا أو المتأثرة بخطابها الديني والسياسي. ومن غير المستبعد أن يؤدي الصّدام الأخير بين قوات الحكومة والمقاتلين الأجانب في إدلب إلى تصاعد المعارضة الداخلية ضده، خصوصا إذا مضى في تنفيذ التزامات التحالف بشكل عملي.
لذلك، فإنّ الانضمام إلى “التحالف” ليس إعادة تعريف لموقع دمشق العسكري، بقدر ما هو خطوة سياسية لتطبيع وجود واشنطن داخل سوريا، وإدماجها في المنظومة الدولية دون أن تتحول إلى طرف محتَلّ.
حكومة الشرع لاتزال تحت الاختبار
يأتي تعليق عقوبات قيصر على سوريا بعد زيارة الشرع لواشنطن، دون رفعها بشكل نهائي، كإشارة سياسية من واشنطن بأنّ الحكومة السورية المؤقتة لا تزال في طور “الاختبار”، وأنّ الطريق أمامها ما زال طويلا قبل أن تكتسب شرعية دولية كاملة، أو ثقة أمريكية راسخة. فالولايات المتحدة، التي خبرت تعقيدات الساحة السورية لأكثر من عقد، تدرك أن الشرعية السياسية لا تُمنح بسهولة، وأن رفع العقوبات لا يكون مجانيا ما لم تُترجم الوعود إلى التزامات عملية واضحة. من هنا، فإنّ تعليق العقوبات لا يُقرأ بوصفه مكافأة، بل كأداة ضغط ناعمة لإجبار حكومة الشرع على السير في الاتجاه المطلوب أمريكيا وأوروبيا، بما يشمل تنفيذ الشروط المتعلقة بمحاربة الإرهاب، وإخراج المقاتلين الأجانب، وحماية الأقليات الدينية والإثنية، وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، فضلا عن تحقيق سلام دائم مع إسرائيل يضمن تحييد الجبهة الجنوبية، وإعادة رسم معادلة الأمن الإقليمي بما يتوافق مع المصالح الأمريكية.
غير أنّ تطبيق هذه الشروط ما زال متعثرا، ليس فقط بسبب ضعف قدرة الحكومة السورية المؤقتة على فرض سيطرتها الكاملة، بل أيضا بسبب طبيعة بنيتها الأيديولوجية والعسكرية التي لم تتحرّر بعد من الإرث الجهادي الذي شكّل أساسها. فبينما كانت واشنطن تتوقع أن تسير دمشق الجديدة في مسار متدرج نحو بناء مؤسسات أكثر انفتاحا وشفافية، تكشّف خلال الأشهر الماضية أنّ الحكومة تتلكأ في تنفيذ الالتزامات المتفق عليها، بل ذهبت أبعد من ذلك بارتكاب انتهاكات ومجازر بحق الأقليات العلوية والدرزية في بعض المناطق، ما عمّق الشكوك حول قدرتها على تبنّي نهج وطني جامع يتجاوز الانقسامات ويوقف الاقتتال الطائفي.
كما لاتزال الحكومة المؤقتة تماطل في الالتزام ببنود “اتفاقية العاشر من آذار” الموقّعة مع قوات سوريا الديمقراطية برعاية أمريكية، والتي تمثّل محورا أساسيا في الرؤية الأمريكية لدمج القوى المحلية ضمن مؤسسات الدولة، وتحويل قسد إلى شريك رسمي في منظومة الأمن الوطني السوري. فالاتفاق كان يُفترض أن يشكل نقطة تحول نحو توحيد المؤسسات العسكرية والأمنية، وتدعيم مبدأ الشراكة الداخلية كضمانة لاستقرار البلاد ومنع عودة التنظيمات الإرهابية، إلّا أنّ التلكؤ في التنفيذ من قبل دمشق أثار قلق واشنطن ودفعها إلى إعادة تقييم مدى التزام الشرع وفريقه السياسي بالمسار الإصلاحي الموعود.
وفي هذا السياق، جاءت زيارة الشرع إلى واشنطن كمحاولة لإعادة ترميم الثقة، وإظهار الاستعداد لتصحيح المسار. فبعد انتهاء الزيارة، أعلنت وزارة الخارجية السورية أنّ اجتماعا موسعا عُقد بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ونظيره الأمريكي مارك روبيو ووزير الخارجية التركي هاكان فيدان، بتوجيه مباشر من الرئيس ترامب، لمتابعة تنفيذ التفاهمات السابقة، ووضع آليات واضحة لتطبيق اتفاق العاشر من آذار. وأكد البيان أنّ الأطراف الثلاثة اتفقت على المضي قدما في دمج قوات سوريا الديمقراطية ضمن الجيش السوري في إطار عملية توحيد المؤسسات وتعزيز الأمن الوطني. ما يعني أنّ أمريكا ترى أنّ الحفاظ على شراكتها مع قسد هو ركيزة أساسية لاستراتيجيتها في سوريا.
في الوقت نفسه، تبدو دمشق واعية لخطورة هذا التقييم الأمريكي، وتحاول جاهدة إظهار نفسها كشريك ملتزم بالمسار الدولي. فهي تعلن بين حين وآخر عن تنفيذ عمليات ضد خلايا داعش، وتبث أخبارا عن إحباط مخططات لاغتيال الرئيس أحمد الشرع، وتكثّف تصريحاتها حول ملاحقة المقاتلين الأجانب في إدلب ومناطق الشمال الغربي. لكنّ هذه الخطوات لا تزال تفتقر إلى الطابع العملي العميق الذي تطالب به واشنطن، إذ تراها أقرب إلى استعراضات إعلامية تهدف إلى طمأنة الخارج أكثر من كونها استراتيجية داخلية متكاملة لمكافحة الإرهاب.
في المحصلة، تبدو واشنطن وكأنها تعيد تشكيل المشهد السوري بأدوات جديدة أكثر نعومة وفعالية. فهي تُشرعن وجودها، وتربط بين دمشق وقسد في شبكة تنسيق أمني بإشرافها، وتفتح الباب لتفاهمات مع إسرائيل وتركيا تضمن بقاء الجميع ضمن نطاق نفوذها المرسوم. وبهذا، تتحول سوريا إلى نموذج محدث لاستراتيجية “القيادة من خلف الكواليس”: حيث تبقى أمريكا في مركز التحكم السياسي والأمني.