*بوابة اخبار تركيا
تقرير: ياوز أجار:تصاعد التوتر بين زعيم حزب الحركة القومية دولت بهجلي والرئيس رجب طيب أردوغان مع إصرار الأول، منذ نحو شهر، على ضرورة توجه لجنة برلمانية إلى سجن إمرالي للقاء عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني في إطار ما يسمى عملية “السلام الكردي” الثانية، بعد فشل سابقتها في 2015.
موقف بهجلي وخطابه الأخير
ومع أن بهجلي، الذي يوصف من قبل عديد من المحللين، مثل ممتازر توكونه ولفند جولتكين، بأنه الممثل السياسي لـ”العقل المدبر للدولة” أو “صاحب القرار الأخير”، كرر هذا المطلب في اجتماعات الكتلة البرلمانية لحزبه، فإن أردوغان ظل مترددا في اتخاذ موقف حاسم. وفي الاجتماع الأخير للحزب، أعلن بهجلي أنه مستعد للذهاب بنفسه إلى إمرالي برفقة ثلاثة من نوابه “بإمكاناتهم الخاصة”، بعد حصوله على تفويض من أعضاء كتلته الذين صفقوا وقوفا دعما له.
قراءة جولتكين وأوسلو للموقف
هذا الإعلان يثير سؤالا مركزيا: هل يمثل هذا التوجه رغبة حقيقية بالتحرك، أم أنه بمثابة رسالة ضغط سياسي موجهة مباشرة إلى أردوغان؟ يظهر من مجمل المؤشرات أن الخطوة، وفقا لرؤية جولتكين، تحمل طابع “الرسالة الحادة” أكثر مما تعبر عن نية تنفيذية فعلية.
والمحلل السياسي الآخر أمره أوسلو يطرح رأيا مماثلا مؤكدا أن الموقف المفاجئ الذي أعلنه بهجلي بشأن تحسين ظروف سجن عبد الله أوجلان، ليس خطوة عابرة أو تعبيرا عن مراجعة فكرية، بل هو تحرك محسوب يحمل رسائل إلى داخل النظام أكثر مما يوجهها إلى الخارج. ويزعم أن بهجلي يستثمر ورقة أوجلان ليس من أجل الملف الكردي بحد ذاته، بل لترسيخ موقعه داخل هيكل السلطة قبل دخول تركيا مرحلة انتقالية حساسة.
يذكر أوسلو أن تركيا دخلت في شباط/فبراير 1999 مرحلة جديدة من الصراع السياسي والأمني مع اعتقال عبد الله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني. حينها، كان الحلف الحاكم يضم بولند أجاويد وشريكَه السياسي بهجلي. الاحتفاء الكبير باعتقال أوجلان كان من نصيب العناصر القومية “المتشددة” داخل مؤسسات الدولة، الذين اعتقدوا أن العقوبة النهائية ستكون الإعدام.
لكن الواقع كان مختلفا. وفق تحليل أمره أوسلو، فإن قرارات إدارة ملف أوجلان لم تكن أمنية فحسب، بل كانت سياسية استراتيجية. دعم بهجلي لإلغاء عقوبة الإعدام بحق أوجلان في بدايات الألفية الثالثة، لم يكن تصرفا منفردا، بل جاء في إطار ضغط الاتحاد الأوروبي على تركيا، وضمانا لتسوية ملف أوجلان بعيدا عن الإعدام، بما يخدم مصالح الدولة العميقة القديمة والقوى القومية التقليدية.
العقل القديم وراء المشهد السياسي الراهن
يرى أوسلو أن الأسماء الرئيسية التي تحركت آنذاك لإدارة ملف أوجلان تعود إلى ما يسميه “الدولة العميقة”، حيث إن شنكال أتاسغون، الذي أشرف على عملية ضبط وجلب أوجلان إلى تركيا، أصبح لاحقا مستشارا لبهجلي، بعد أن كان مستشارا للمخابرات. كما أن المحققين والقضاة الذين تعاملوا مع القضية كانوا جميعهم من الأوراسيين الذين يشكلون الجناح القومي العلماني لهذه الدولة العميقة. وفق أوسلو، عاد هؤلاء الفاعلون اليوم في 2024-2025، مع تحريك أوجلان إلى الواجهة السياسية مجددا، من خلال خطوة زيارة إمرالي التي يقودها بهجلي.
غياب التقدم في المفاوضات بين بهجلي وأردوغان
وتشير اللقاءات السابقة بين بهجلي وأردوغان إلى عدم حصول تقدم في هذا الملف، رغم الاجتماع الذي عقد بينهما قبل أسبوع واستمر أربعين دقيقة، والذي لم يفضِ إلى تفاهمات ملموسة. وقد بدا ذلك واضحا من خطاب بهجلي الأخير، الذي دل على أن الطرفين لم يناقشا الملف بصورة جدية، وأن المواقف ما تزال متباعدة. ويظهر كذلك أن بهجلي، خلافا لأردوغان، يتبنى موقفا ضاغطا يدفع باتجاه تفعيل خطوة إمرالي، بينما يستمر الرئيس التركي في التريث دون إصدار تعليمات واضحة للجنة البرلمانية المعنية.
الاختلاف في التقدير السياسي لزيارة أوجلان
ويبدو أن هذا التباين لا يرتبط بتفاصيل إجرائية فحسب، بل يعكس اختلافا بنيويا في تقدير الأثر السياسي لزيارة أوجلان. فالموافقة على الزيارة من شأنها أن تمنح أوجلان موقع “الفاعل السياسي العلني”، بما يتجاوز وصفه القانوني الراهن، حيث لا يزال الحزب الذي أسسه ويرأسه حاليا يصنف تنظيما إرهابيا رسميا. كما أن زيارة لجنة رسمية له تفتح الباب أمام سلسلة خطوات لاحقة، كزيارات الإعلاميين والسياسيين، وتدريجيا خلق حالة تطبيع مجتمعية حوله، ما يؤثر في النقاشات المستقبلية بشأن وضعيته القانونية وموقعه داخل المعادلة الكردية ـ التركية.
تحول استراتيجي في موقف بهجلي
من هذا المنظور، يمثل موقف بهجلي تحولا استراتيجيا لزعيم حزب قومي ظل، طوال أربعة عقود، يتخذ موقفا متشددا من أوجلان. وهذه القطيعة مع الخطاب التقليدي لا يمكن تفسيرها بمعايير انتخابية فقط، لأن الحزب القومي ـ في حال كان همه حسابات الشارع ـ لن يقدم على خطوة قد تثير حساسية كتل واسعة من قاعدته الاجتماعية. لذلك يبدو أن بهجلي، بحسب رأي جولتكين، يتحرك ضمن ما يشبه “مهمة سياسية” تتجاوز الاعتبارات الحزبية المباشرة، وأن إصراره يعكس التزاما بخط مرسوم مسبق أكثر مما يعبر عن مناورة ظرفية.
المهمة السياسية لبهجلي وفق بيراقدار أوغلو
وفيما يتعلق بما يعتبره جولتكين “المهمة السياسية لبهجلي”، يشير المحلل السياسي الآخر ممدوح بيراقدار أوغلو إلى أن حزب الحركة القومية قد تأسس، بحسب تحليله، لضمان مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل في المنطقة. ويصف بيراقدار أوغلو بهجلي بأنه “خبير في فنون القتال عن قرب”، زاعما أنه اقترب من الرئيس أردوغان منذ عام 2015 بهدف استثمار أي فرصة سانحة لتوجيه ما يسميه “الضربة القاضية” إلى أردوغان وفكره السياسي الإسلامي. كما يرى المحلل أن بهجلي يسعى من خلال هذا التوجه إلى إدارة القضية الكردية، في عموم المنطقة، بما يتوافق مع المصالح الأمريكية، وهو ما يعكس، وفق رأيه، دور حزب الحركة القومية كأداة مؤثرة ضمن التحولات السياسية الداخلية والخارجية لتركيا.
موقف أردوغان واستراتيجية التريث
في المقابل، يواصل أردوغان العزوف عن اتخاذ الموقف المطلوب من شريكه السياسي. وتطرح هذه الاستراتيجية عدة احتمالات: فقد يكون الرئيس التركي متوجسا من رد الفعل الشعبي تجاه أي خطوة تقرأ على أنها تمهيد لإعادة إدماج أوجلان في المشهد السياسي. وقد يكون مرتبطا بحسابات مرتبطة بسوريا أو بترتيبات دستورية مؤجلة، أو ربما بعدم رغبته في تقاسم رمزية “صنع الحل” مع بهجلي. وتكشف هذه الاعتبارات أن الخلاف لا يعبر فقط عن اختلاف تكتيكي، بل عن تصورين متمايزين لمستقبل العلاقة مع الكتلة الكردية وطبيعة الدور المتوقع لأوجلان.
السيناريو المحتمل لزيارة اللجنة
أما في حال ذهبت اللجنة فعلا إلى إمرالي، فإن ذلك سيؤسس لمسار جديد في السياسة التركية، عبر تحويل أوجلان إلى مصدر مرجعي في ملفات تتجاوز الشأن الداخلي، مثل الوضع في سوريا والعلاقة مع القوى الكردية الإقليمية. وهذا التطور قد يعيد ترتيب التوازنات داخل الحقل السياسي الكردي، وربما يفتح نقاشات حول إعادة هندسة العلاقة بين الدولة وهذه القوى.
غياب التوجيه من الرئاسة وتداعياته
ويشكل غياب التوجيه من جانب الرئاسة عاملا يزيد من التوتر داخل تحالف “الجمهور”. فقد أظهر خطاب بهجلي الأخير غياب العبارات التقليدية التي تؤكد تماسك تحالفه مع أردوغان، في مؤشر إلى وجود برودة سياسية واضحة. وفي موازاة ذلك، بدأت بعض قوى المعارضة، مثل حزب الشعب الجمهوري، تبحث عن خيارات مرتبطة بمواقفها من اللجنة البرلمانية ومن زيارة محتملة للزعيم الكردي الآخر المعتقل أيضا صلاح الدين دميرتاش إذا تحركت أحزاب التحالف نحو إمرالي، وهي مناورة تهدف إلى إعادة تعريف موقع المعارضة داخل هذا المسار.
ضغوط بهجلي على الحكومة عبر ملفات أخرى
وتتضح أهمية هذا المشهد حين يربط بملفات أخرى، مثل قضية أكرم إمام أوغلو المعتقل منذ أشهر، والدعوات التي أطلقها بهجلي لبث جلسات المحاكمة على الهواء مباشرة. ويقرأ ذلك أيضا كجزء من الضغط على الحكومة، سواء لاستمالة المعارضة إلى دعم مسار اللجنة أو لموازنة خطاب أردوغان المتردد. ومع ذلك، تبقى قدرة المعارضة على صياغة موقف موحد رهنا بمشاركتها أو عدم مشاركتها في اللجنة.
الإشارات المستمرة لبهجلي وتحدي التحالف
وتشير المعطيات العامة إلى أن بهجلي يرسل سلسلة من الإشارات المتتالية مفادها أنه مستعد للذهاب بعيدا في تنفيذ ما يعتبره “مهمة سياسية”، حتى لو أدى ذلك إلى تعقيد العلاقة داخل التحالف. وفي المقابل، يقف أردوغان أمام خيارين: إما قبول مطالب بهجلي وإعادة ترميم التحالف، أو التمسك بتردده وتحمل تبعات اتساع الشرخ.
سيناريو “ما بعد أردوغان”: انتقال محسوب أم فراغ سياسي؟
من منظور أوسلو، تظهر التفاعلات داخل النظام أن أردوغان يدرس منذ فترة إمكانية إعادة تموضعه السياسي، تمهيدا للانتقال إلى دور “المرجعية العليا”، بحيث يحتفظ بتأثير واسع دون إدارة التفاصيل اليومية للسلطة، وذلك من خلال استبدال الدستور العلماني التقليدي بنوع جديد وفق مقاس أردوغان. لكن هذا الطلب يرفضه بهجلي إذ يعارض أي تغيير في الدستور من شأنه إزالة الهوية العلمانية القومية للدولة. ويزعم أوسلو أنه في حال نجاح خطة بهجلي بشأن الملف الكردي فإن تحالف الجمهور الحاكم سينهار.
ويرى أوسلو أن هذا الاحتمال يثير ثلاثة أسئلة مركزية داخل الدولة:
-من الذي سيملأ موقع القيادة التنفيذية؟
-هل سيقبل الجناح القومي بتسليم مفاصل الدولة لشخصية من حزب العدالة والتنمية؟
-وما هو موقع المؤسسة الأمنية (أو الدولة العميقة) في هذا التوازن الجديد؟
دور المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية
ويشير إلى أن الأجهزة الأمنية—على الرغم من التغييرات العميقة التي لحقت بها بعد أحداث الانقلاب في 15 تموز 2016— لا تزال ترى نفسها حارسة لاستقرار الدولة، وأن أي فراغ محتمل في القيادة قد يفسح المجال لتدخل غير مباشر من المؤسسة العسكرية أو الأمنية لحماية وحدة السلطة.
وبحسب أوسلو، عاد النقاش في الكواليس إلى موقع المؤسسة العسكرية بوصفها “الضامن الأخير” في لحظات التحول السياسي. وعلى الرغم من تراجع نفوذ الجيش رسميا، إلا أن تحليلاته تشير إلى أن الجيش ما زال يحتفظ برأسماله الرمزي داخل الدولة، وقنوات تأثيره غير المباشرة لم تختفِ، وقد يظهر دوره في لحظات الخلاف بين الأجنحة السياسية.
ويعتبر أوسلو أن صعود الأزمات الإقليمية، وتضاؤل ثقة الدولة ببعض النخب السياسية الحالية، يعيد فتح الباب أمام دور مؤسساتي أكبر للجيش في المرحلة المقبلة، ولو بطرق غير معلنة.
طموحات أردوغان وإعادة هيكلة السلطة
ويرى أوسلو أن أردوغان يسعى في المدى المتوسط إلى خروج تدريجي محسوب من المواجهة السياسية المباشرة، مع الاحتفاظ بموقع “المرجع الأعلى”. ويعزو ذلك إلى الإرهاق السياسي الناتج عن إدارة الدولة منذ أكثر من عقدين، وتزايد الضغوط الاقتصادية والأمنية، والحاجة إلى إعادة إنتاج القيادة قبل تعمق الانقسامات داخل حزب العدالة والتنمية، ورغبة أردوغان في إدارة “الانتقال القادم” من موقع أعلى لا من موقع الصدارة التنفيذية.
ويؤكد أوسلو أن هذا التحول، إن وقع، سيعيد صياغة المعادلة السياسية برمتها، وسيجعل من سؤال الخلافة السياسية محور الصراع المركزي داخل الدولة.