*تركيا اليوم
يقدّم لفنت جولتكين رؤية نقدية عميقة للجمهورية في عامها الـ102، محذّرا من تحوّلها إلى “جمهورية رمزية بلا ديمقراطية”، ومؤكدا أن إنقاذها يبدأ من وعي جماعي جديد يضع الوطن فوق الانتماءات.
في حديث مطوّل بمناسبة الذكرى الـ102 لتأسيس الجمهورية التركية، عبّر الكاتب والمحلل السياسي لفنت جولتكين عن مشاعر الفخر والحزن في آنٍ واحد، واصفا تركيا بأنها “بلد جميل أنهكته المخاوف التاريخية وسوء إدارة القيم”.
وقال جولتكين، في فيديو نشره عبر صفحته على يوتيوب، إن الجمهورية التي وُلدت من رحم الانهيار العثماني بدأت من موقع متقدم، إذ تبنت قيما تقدّمية سابقة لعصرها، إلا أنها “لم تستطع بلوغ النقطة التي تستحقها تلك البداية المبكرة”.
ورأى جولتكين أن تركيا اليوم “بلد يافع عمره قرن لكنه ما زال عاجزا عن أن يكون دولة قانون مستقلة وديمقراطية مكتملة”، مشيرا إلى أن إخفاقها لا يُختزل في حقبة سياسية واحدة، بل يمتد منذ لحظة التأسيس الأولى التي حملت في جوفها “فوبيا سِيفر”؛ تلك المخاوف التي كبّلت الوعي الجمهوري وأعاقت تطور الحياة الديمقراطية.
الجمهورية والدين: سوء فهم متبادل أنتج أزمات متوارثة
يعتبر جولتكين أن أحد أكبر إخفاقات الجمهورية يكمن في فشلها في تحقيق المصالحة بين الدين والدولة. فقد رأى أن التيارات الإسلامية لم تفهم مشروع أتاتورك فهما موضوعيا، إذ تعاملت معه كحركة “لإلغاء الدين” بينما هو في نظره أسس مؤسسات دينية كبرى — مثل رئاسة الشؤون الدينية — لضمان ممارسة الإيمان في إطار مدني منظم.
وفي المقابل، يرى أن التيارات الكمالية أساءت بدورها إلى فكر أتاتورك، فاختزلت الجمهورية في رموز شكلية ومظاهر غربية سطحية، مثل اللباس والاحتفالات، دون أن تبني “ثقافة ديمقراطية تعايشية”. وهكذا تحولت الهوية الدينية والهوية الجمهورية إلى ساحتين متقابلتين بدل أن تكونا جناحين متكاملين للدولة الحديثة.
الأقليات والهوية: إخفاق مستمر في إدارة التنوع
انتقد جولتكين التاريخ السياسي التركي الذي لم يستطع التعامل بعدالة مع مكوناته الاجتماعية والدينية. فالكرد، بحسب قوله، “عانوا من الإقصاء والتمييز لعقود طويلة”، والأقليات المذهبية، وعلى رأسها الطائفة العلوية، “لم تحصل على الاعتراف الذي تستحقه”، بينما تحولت مكافحة “التطرف/التشدد الديني” إلى حرب على “المتدينين أنفسهم”.
وأضاف أن هذه الأخطاء المتراكمة خلقت حالة من “الانفصال الاجتماعي” جعلت المواطنين عاجزين عن إنتاج قيم جامعة، وتحول كل مكون إلى “جزيرة قيمية” خاصة به، مما أفقد البلاد مفهوم المواطنة المتساوية.
القيم المهدورة والسياسة المستغِلة
يرى جولتكين أن تركيا تمتلك منظومة قيم غنية — من الفلسفة الجمهورية إلى التدين الإنساني والروح الأناضولية — لكنها جميعا “تحولت إلى أدوات للمزايدة السياسية”. فكل حزب أو تيار، كما يقول، “استثمر القيم الوطنية والدينية لخدمة سلطته، حتى استُنزفت هذه القيم وأُفرغت من مضمونها”.
ومع ذلك، يؤكد جولتكين أن “الأمل لم يمت”، فتركيا رغم أزماتها لم تنحدر إلى مصير دول المنطقة مثل أفغانستان أو سوريا أو العراق، وبقيت تحتفظ ببنية مجتمعية حية وإيمان بالديمقراطية “ولو مشوّها”.
مفهوم “التتريك” ودعوة إلى الوعي المشترك
طرح جولتكين مفهوم “الهوية الوطنية” وعرّفها بأنها الانتماء المشترك الذي يتجاوز الدين والمذهب والهوية القومية، ويتمثل في إعطاء الأولوية لمصلحة البلاد على المصلحة الشخصية أو الحزبية.
فالمواطن والوطني، في نظره، هو من يضع معايير المصلحة الوطنية في كل عمل يؤديه:
– المعلّم الذي يرى طلابه أبناء الوطن جميعا.
القاضي الذي يحكم بما يصون العدالة لا الولاء.
الطبيب الذي يكتب وصفته بما يخدم المجتمع لا الشركات.
والسياسي الذي يرفع الوطن فوق الحزب.
ويرى جولتكين أن غياب هذا الوعي هو أصل معظم أزمات تركيا الحديثة، مؤكدا أن “البلاد يمكن أن تُشفى إذا أدرك مواطنوها أن جرح ديار بكر (ذات الأغلبية الكردية) يؤلم طرابزون، وأن معاناة الكردي تنعكس على سعادة التركي، والعكس صحيح”.
بين الجمهورية والديمقراطية: جوهر الأزمة المستمرة
شدّد جولتكين على أن الجمهورية بحد ذاتها ليست مشكلة، مشيرا إلى أن أنظمة استبدادية كثيرة تحمل الاسم نفسه مثل إيران وكوريا الشمالية. ما يجعل الجمهورية التركية ذات معنى — كما قال — هو ارتباطها بالديمقراطية وبالعدالة المستقلة.
ويرى أن “أكبر خطأ ارتكبه الحكام المتعاقبون هو فصل الجمهورية عن الديمقراطية”، مما جعلها كيانا شكليا بلا روح. وأضاف أن الحكومات الحالية “تستهلك ما بناه مؤسسو الجمهورية ولا تضيف شيئا من حيث القيم أو المؤسسات”.
رمزية السلطة وتقديس الزعيم: “كوريا الشمالية الجديدة”
توقف جولتكين عند قرار تعليق صور الرئيس رجب طيب أردوغان في المدارس والمؤسسات العامة بمناسبة عيد الجمهورية، واعتبره “مظهرا خطيرا من مظاهر الشخصنة السياسية” التي تهدد هوية الدولة.
وقال إن “رفع صور الزعيم الحاكم بجانب صور مؤسس الدولة ظاهرة تنتمي للأنظمة السلطوية”، مشبها المشهد بـ“كوريا الشمالية أو إيران”. ورأى أن “الجمهورية التي بدأت بفكر تحرري تنزلق اليوم نحو تقديس الأشخاص”.
وأوضح أن الديمقراطيات المتقدمة لا تضع صور الزعماء في المؤسسات العامة إلا لاعتبارات تاريخية تخص المؤسس الأول، “أما الزعماء اللاحقون فهم موظفون لدى الأمة، لا رموزا مقدسة”.
واعتبر جولتكين أن الخطوة الأخيرة محاولة “لإحلال أردوغان مكان أتاتورك رمزيا”، لكنها في رأيه “محاولة عبثية” لأن “كل ما يملكه أردوغان من شرعية يستمده من الجمهورية التي أسسها أتاتورك”، على حد تعبيره.
الوعي والنهضة: طريق الأمل الممكن
على الرغم من انتقاداته الحادة، عبّر جولتكين عن تفاؤله بإمكانية استعادة روح الجمهورية الأولى شريطة أن “ينظر الأتراك في المرآة الوطنية لا الحزبية”، وأن “يتعلموا حب وطنهم قبل كره خصومهم”.
وقال: “لقد أضعنا قرنا في صراعات الهوية والمخاوف، لكن ما زال في يدنا الكثير من الجمال والفرص. يكفي أن نتوقف عن أكل بعضنا، ونبدأ بالتفكير كأبناء وطن واحد.”