كيف سيحوّل اقتصاد الغضب، البطالة، والخوف إلى وقودٍ للشعبوية؟
* مجلة "فورين أفيرز" الأميركية
تقرير: بياتريس ماجيسترو، صوفي بوروين، ر. مايكل ألفاريز، بارت بونيكوفسكي، وبيتر جون لووين
لقد بدأت التحوّلات الاقتصادية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي بالفعل. مثلاً، في شهر أيار/مايو الماضي أعلنت شركة "آي بي إم" أنّها فصلت مئات الموظفين، واستبدلتهم بروبوتات للتواصل والدردشة تعتمد على الذكاء الاصطناعي. وخلال الصيف قامت شركة "سيلس فورس" بتسريح أعداد كبيرة من العاملين بفضل الذكاء الاصطناعي.
كذلك، شركات مثل "يو بي إس"، وبنك "جي بي مورغان تشيس"، وسلسلة مطاعم "وينديز"، تقلّص أيضاً عدد الموظفين مع زيادة عمليات الأتمتة في وظائفها، بينما يواجه خريجو الجامعات صعوبة متزايدة في الحصول على وظائف للمبتدئين مقارنة بما كان عليه الحال منذ ما يقرب من عقد من الزمن. وهذه الاتجاهات ليست سوى البداية. ففي استطلاع تلو الآخر، تعلن الشركات حول العالم عن خططها لاستخدام الذكاء الاصطناعي بهدف إحداث تحوّل في قواها العاملة.
مع ذلك من المرجّح أن يولد الذكاء الاصطناعي فرص عمل جديدة حتى في الوقت الذي يعطّل فيه فرصاً أخرى، بينما يختلف خبراء الاقتصاد حول ما إذا كان التأثير فقط سيكون في فقدان الوظائف أو اكتسابها أو مجرّد إعادة هيكلة. ومهما كانت العواقب بعيدة المدى، سيصبح الذكاء الاصطناعي قريباً قضية سياسية رئيسية. فإذا حدث اضطراب كبير، سيواجه المسؤولون عُمّالاً غاضبين من فقدان وظائفهم لصالح الروبوتات والآلات.
وبلا شكّ سيعبّر الناخبون عن استيائهم من كلّ هذا في صناديق الاقتراع، ممّا سيفرض على السياسيين وضع خطط لحماية ناخبيهم بسرعة. وهذا يوجب وضع استراتيجية فعّالة لمواجهة الاضطراب واسع النطاق الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي، حيث سيحتاج صانعو السياسات إلى فهم كيفيّة إدراك العمال مصالحهم في ظلّ التهديد التكنولوجي.
في استطلاع للرأي في العام 2023 شمل 6000 أميركي وكندي لقياس مستوى قلقهم بشأن التسريحات الجماعية الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، وكيف ينبغي للحكومة التعامل مع هذه القضية، كشفت النتائج عن حجم التحدّي، حيث وضع المشاركون مخاوفهم بشأن فقدان وظائفهم بسبب الذكاء الاصطناعي في المرتبة الأولى مقارنة بجميع المخاوف الأخرى، مثل احتمال استخدامها في الأغراض العسكرية.
أمّا فيما يتعلق بتفضيلات السياسات، فهناك ما يدعو إلى التفاؤل والتشاؤم على حدّ سواء. فمن الجانب الإيجابي، فضّل معظم المشاركين في الاستطلاع إجراءات مثل برامج إعادة التدريب وتوسيع شبكات الأمان الاجتماعي، وهي حلول تقنية يُؤمن الاقتصاديون بفعّاليّتها. أمّا الجانب السلبي، فقد أيّد العديد أيضاً فرض قيود تجارية جديدة وحواجز على الهجرة، وهي استراتيجيات قد تؤدّي إلى تفاقم المشكلة، وقد تلجأ إليها الحكومات لأسباب سياسية، في حين استجابت عدة دول في السابق، للتسريحات الناتجة عن نقل الوظائف إلى الخارج بفرض رسوم جمركية صارمة وزيادة عمليات الترحيل، رغم أنّ الطريقتين لم تثبت فعّاليّتهما.
النظرية والتطبيق
لتحديد كيف يرغب الناخبون في أن تدير الحكومة حالات التسريح من العمل الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، لم نُجرِ استطلاعاً بسيطاً للرأي. وبدلاً من ذلك، أعددنا 81 سيناريو يتضمّن إمّا تبنّي الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف إلى الخارج، حيث كانت للصدمة الاقتصادية تأثيرات مختلفة على التوظيف وأسعار السلع. ففي أحد السيناريوهات، على سبيل المثال، أدّى الذكاء الاصطناعي إلى خفض أسعار الهواتف الذكية بنسبة 50% مع إلغاء 25% من وظائف المصانع، وخلق 25% من فرص العمل الإضافية في مجال علم البيانات. وفي سيناريو آخر، بقيت الأسعار على حالها، بينما انخفضت وظائف خدمة العملاء بنسبة 25% وظلت وظائف المصانع ثابتةً.
بَعد ذلك، عرضنا على المشاركين 4 من هذه السيناريوهات لفحصها، واختيرت عشوائياً، وقدّمنا لهم قائمة بالسياسات المحتملة للاستجابة، مثل برامج إعادة التدريب، وتوسيع شبكة الأمان الاجتماعي، وتنظيمات لحوكمة الصدمة الاقتصادية التي شاهدها المشاركون، سواء كانت نشر الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف إلى الخارج، والحواجز التجارية، وقيود الهجرة، وطلبنا منهم تحديد مدى تأييدهم لكلّ خيار.
كما طُلب من المشاركين عشوائياً أيضاً، تقييم سيناريوهات الذكاء الاصطناعي أو نقل الوظائف إلى الخارج فقط، وليس كليهما، ممّا أتاح لنا مقارنة ردود الناخبين تجاه التغيير التكنولوجي المحلي مقابل المنافسة الخارجية، ومعرفة ما إذا كانت المفاضلات الاقتصادية المماثلة تؤدّي إلى تفضيلات سياسية متشابهة عبر أنواع مختلفة من الاضطرابات.
لقد جاءت النتائج واضحة، بغضّ النظر عن الانتماء الحزبي للمشاركين الذين اختاروا في كلا البلدين إعادة تدريب العمال كسياسة مُفضّلة لديهم. وقد بلغ متوسط الدعم لهذا الخيار 4 أشخاص من 5 من المشاركين يؤيّدونه بقوة، بينما البقيّة القليلة تعارضه بشدة. وقد جاء أمر تنظيم الذكاء الاصطناعي كثاني أكثر السياسات المحبّذة شعبيةً، بين مختلف الانتماءات السياسية. أمّا توسيع الإنفاق الاجتماعي، فقد جاء في المرتبة الثالثة، لكنّه حظي بدعم أقل بكثير بين "الجمهوريين" في الولايات المتحدة، ودعم أقلّ قليلاً من المحافظين في كندا.
لقد كانت هذه النتائج مشجّعة. وإذا سُئِل الاقتصاديون عن السياسة التي يوصون بها استجابة لحالات التسريح الناتجة عن الذكاء الاصطناعي، سينحاز معظمهم إلى إعادة التدريب، أو التنظيم، أو التأمين الاجتماعي. فالمنطق بسيط، حيث يمكن إبطاء التغيّر التكنولوجي، لكنّ إيقافه يكاد يكون مستحيلاً، لذلك فإنّ أفضل ما يمكن للحكومات فعله لصالح المواطنين المتضرّرين هو تزويدهم بمهارات جديدة، ووضع ضوابط معقولة، وابتكار علاجات جديدة للبطالة، لكنّ المشكلة هي أنّ الحكومات اليوم نادراً ما تُطبّق هذه السياسات فعليّاً.
كما أنّ معظم الدول الغنية التجارية لم تقم بإنشاء أنظمة تدريب كبيرة لإعادة التأهيل المهني، في الاستجابة للصدمات الاقتصادية الأخيرة، مثل انخفاض الوظائف التصنيعية. كذلك الوضع التنظيمي الآن لا يبدو أفضل حالاً، على الرغم من ازدهار الذكاء الاصطناعي، حيث لم تعتمد سوى قلة من الحكومات تشريعات شاملة تتعلّق به، لكن يعتبر قانون الذكاء الاصطناعي للاتحاد الأوروبي الاستثناء البارز في هذا المجال.