*د.محمد السهر
((قراءة سوسيولوجية في خطاب ترامب وذاكرة نصف قرن من الهدر)).
على هامش مؤتمر شرم الشيخ الخاص بغزة، تطرق الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى العراق قائلا:
(( يشرفنا إن يكون العراقيين معنا في هذا المؤتمر، لديهم الكثير من النفط لا يعلمون كيف يتصرفون بهذا الكم الهائل منه.. العراقيون لديهم كنز تحت أقدامهم، لكنهم يبدون عاجزين عن استثماره من أجل تحقيق الرفاهية)).
قد يبدو هذا التصريح متعاليا، لكنه في الوقت ذاته يفتح جُرحا قديما في الذاكرة العراقية: كيف تحوّل النفط من نعمةٍ إلى نقمة، ومن وعدٍ بالرخاء إلى لعنةٍ من الفساد؟
......
النفط الذي لم يُثمر دولة..
منذ أن أعلن العراق تأميم نفطه في حزيران العام 1973، حلم العراقيون بأن تفيض خيراتهم على الجميع، وأن تكون الثروة النفطية طريقهم نحو دولة الرفاه والعدالة.
وبالفعل، شهدت البلاد خلال السبعينيات نهضة عمرانية وتعليمية وصحية غير مسبوقة، بدت معها ملامح الدولة الحديثة في الأفق.
لكن هذه التجربة القصيرة لم تكتمل، إذ سرعان ما ابتلعت الحروب والحصار أحلام التنمية، وتحول النفط من أداة للنهوض إلى وقودٍ لصراعات لا تنتهي، وإلى حرب تحمل جنين حرب أخرى، وصراع يقود إلى هدم البناء الاجتماعي من الأساس..
....
من ريع الدولة إلى دولة الريع..
لم يكن النفط في العراق مجرد مورد اقتصادي، بل أصبح القاعدة التي قامت عليها السلطة السياسية.
فالدولة التي تمتلك النفط( لدينا في الشرق الأوسط)، تمتلك معه القدرة على توزيع الثروة، وعلى خلق الولاءات، وعلى تسيير مجتمعٍ يعتمد في معاشه على الريع لا على الإنتاج.
وبذلك تحوّل المواطن من منتجٍ إلى مستهلكٍ ينتظر نصيبه من العوائد، وتحولت الحكومة إلى وسيطٍ ريعي أكثر من كونها مؤسّسة تخطط وتبني.
هذه المفارقة هي جوهر ما يسميه الاقتصاديون (بلعنة الموارد) ؛حين تكون الوفرة سببا في العجز لا في الازدهار.
....
بعد 2003: حوت الفساد يلتهم النفط
في العقدين الأخيرين، صدّر العراق كميات ضخمة من النفط، وحقق إيرادات تجاوزت التريليونات من الدولارات.
لكن ماذا كانت الحصيلة؟
مدن مثقلة بالإهمال، بطالة متفاقمة، مؤسسات منهكة، وخدمات متردية.
الفساد هنا لم يكن عارضا، بل بنية متجذرة في الثقافة تلتهم كل محاولة إصلاح، حتى صار من الصعب التمييز بين الدولة والمجتمع والفساد، وبين الثروة والهدر وضياع الفرص.
لا يخفى أن قطاعات واسعة من المجتمع العراقي قد تحسنت بفضل مبيعات النفط طوال العشرين سنة الماضية، لكن في المقابل كانت التنمية الشاملة غائبة، لأن إدارة الموارد ظلت أسيرة عقلية ما قبل الدولة: عقلية الغنيمة لا الإدارة، والولاء لا الكفاءة، والسياسة لا التنمية، والمحاصصة لا التوزيع العادل للثروة.
.....
بين استعلاء الخطاب ومرارة الحقيقة..
قد يكون خطاب ترامب مثالا على النظرة الغربية المتعالية التي تلوم الشعوب على فشل أنظمتها، لكنه في الوقت نفسه يلامس حقيقة موجعة.
إذ العراق، وعلى الرغم من ثروته النفطية التي تُعد من الأكبر في العالم، ما زال عاجزا عن بناء نموذجٍ اقتصادي مستدام، أو عن تحويل موارده إلى رفاهٍ واستقرار.
لكن هذا الفشل ليس قدرا، بل نتاج سوء إدارة ممنهج وفساد مستشرٍ، وغياب رؤية وطنية جامعة تضع الإنسان قبل النفط، والتنمية قبل السياسة.
.....
النفط والاقتصاد الريعي..
لا يمكن فهم مأزق النفط في العراق خارج إطار الاقتصاد الريعي بوصفه ظاهرة اجتماعية قبل أن يكون معضلة اقتصادية.
إذ المجتمع الريعي لا يعيش من عمله، بل من ريعٍ يأتيه من الخارج — من باطن الأرض أو من الدولة — مما يؤدي إلى تشوه في بنية القيم والسلوك.
حين يتحول الريع إلى مصدر أساسي للعيش، يضعف الحافز على الإنتاج، وتُختزل المواطنة إلى علاقة مصلحة آنية مع الدولة، بينما تتحول السلطة إلى الموزع الأكبر للثروة، فتغدو الولاءات أهم من الكفاءات، والانتماءات أهم من المواطنة.
بهذا المعنى، فإن لعنة النفط ليست في موارده الطبيعية، بل في العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بها.
إذ الثروة في ذاتها محايدة، لكنّ المجتمع الذي يفتقر إلى مؤسسات قوية، وثقافة مدنية حديثة سيحوّلها إلى أداة للفساد والتنازع.
لذلك، فإن الخروج من الحلقة المفرغة للريع لا يكون بزيادة الإنتاج أو الأسعار، بل ببناء اقتصاد اجتماعي منتج يعيد الاعتبار للعمل والمعرفة، ويحوّل الدولة من راعية للولاء إلى حاضنة للعدالة والتنمية.
.....
وأخيرا أما آن للعراقيين أن يدركوا أن النفط ليس خلاصا، بل مسؤولية ثقيلة.
الثروة وحدها لا تصنع دولة، بل تصنعها الإدارة الرشيدة، والتعليم، والمواطنة، والعدالة.
ومن دون هذه القيم، سيبقى النفط كالنار تحت الرماد: يضيء حينا، ويحرق حينا آخر.
إن أخطر ما يمكن أن يحدث لأمة غنية هو أن تعتاد فقرها رغم ثروتها — وأرجو صادقا أن لا يكون ذلك هو جوهر المأساة لدينا.