×

  بحوث و دراسات

  الحرب الاخيرة واعادة تشكيل الشرق الأوسط



*أ. د. علي الدين هلال

*مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة

إذا كان مستقبل أي منطقة عادةً ما يرتبط بالعديد من العوامل السياسية والاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية وغيرها، فإن مستقبل الشرق الأوسط اليوم يرتبط بعامل رئيسي، وهو الآثار والتداعيات المترتبة على الحرب بين إسرائيل وإيران التي بدأت في 13 يونيو 2025، ووضعت أوزارها مع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، الوصول إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين البلدين في 24 يونيو الجاري. فالطريقة التي وضعت نهاية الحرب، سوف تطرح تأثيراتها في شكل المنطقة، وتوازن القوى بين دولها، ومستقبل علاقاتها الدولية.

فقد تم إعلان وقف إطلاق النار بعد يومين من الهجوم العسكري الأمريكي ضد مواقع البرنامج النووي الإيراني؛ أي أنها انتهت بعد عملية عسكرية أمريكية تُعد الأكبر من نوعها منذ عدة عقود. وأعقب هذا الهجوم يوم من العمليات العسكرية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، فقامت إسرائيل بتوسيع مجال أهدافها، ليشمل المطارات، ومراكز الحرس الثوري، والباسيج، والسجون، والمطارات، والمؤسسات الاقتصادية والتعليمية؛ وذلك في سياق سيطرة شبه كاملة واستباحة للمجال الجوي الإيراني. بينما قامت إيران، في نفس اليوم، بهجوم بالصواريخ على إسرائيل، استهدف مدن تل أبيب وحيفا وبئر السبع، وآخر على قاعدة العديد الأمريكية في قطر، بعد أن كانت قد أبلغت السلطات الأمريكية بموعد الهجوم وهدفه؛ مما قلل للغاية من آثاره واستدعى شكر الرئيس ترامب لها.

وحتى الآن، لا أحد يعرف على وجه الدقة حجم الأضرار الناجمة عن الهجوم الأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية، ومدى استقرار وقف إطلاق النار الذي وافقت عليه حكومتا إيران وإسرائيل أو نص الاتفاق، وعن شكل وطبيعة ما سوف يترتب عليه من إجراءات سياسية، والمفاوضات التي من المُتوقع حدوثها، ونتائجها. ومع ذلك، يثور السؤال عما هو مستقبل الشرق الأوسط؟ وكيف يؤثر ما حدث في إعادة تشكيل وتوزيع عناصر القوة فيه؟

 

مواقف الأطراف:

على المستوى الجيوبولوتيكي، تبدو هناك أكثر من إجابة لهذا السؤال، فقد تسعى إسرائيل إلى تصدر المشهد الإقليمي واستكمال إعادة تشكيله وفقاً لرؤيتها ومصالحها، وقد ينشأ توازن للقوى بين إسرائيل وإيران تحت إدارة أمريكية وربما بتنسيق مع تركيا، أو أن تتحرك عدد من الدول العربية وتركيا لبناء توافق إقليمي لا يعتمد فقط على العلاقات بين إسرائيل وإيران. وسوف يُسهم سلوك دول الإقليم في ترجيح الاتجاه إلى أي من هذه الصور.

فقد انتهت الحرب بعد أن اتضح بجلاء الاختلال النوعي في ميزان القوى بين إسرائيل المدعومة أمريكياً، وإيران التي حاربت منفردة.

ويمكن توضيح مواقف الأطراف الأساسية في التالي:

 

1- إسرائيل:

سوف تسعى تل أبيب إلى الاستفادة من هذا الوضع وتحقيق أكبر قدر من أهدافها التي تتضمن القضاء على البرنامج النووي والصاروخي لإيران، والعمل على خلق الظروف لتغيير النظام الحاكم في طهران، فضلاً عن هدف إعادة تشكيل الشرق الأوسط الذي تحدث عنه رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، عدة مرات على مدى عامين، للتخلص من أي مصدر للتهديد العسكري ضد إسرائيل قادر على إلحاق الضرر والأذى بها، وفقاً لرؤيته، على نحو ما حدث في فلسطين وسوريا ولبنان. يُضاف إلى ذلك، هدف الإسراع في تنفيذ خطط تهجير الفلسطينيين من أراضيهم، والضغط على الدول المجاورة لقبولهم تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية، وكذلك هدف تشجيع الأقليات في بعض الدول العربية ضد حكوماتها ودعمها لإضعاف التماسك الوطني فيها.

ومن المُتوقع أن يؤدي هذا السلوك الإسرائيلي إلى استمرار التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، وسوف تظل إسرائيل متابعة ومراقبة لجهود إيران لإحياء مشروعها النووي والصاروخي، والتزامها ببنود الاتفاق الذي سوف تتوصل إليه طهران مع واشنطن، أو أي نشاط لها لإحياء دور أذرعها في المنطقة.

وقد يترتب على ذلك، ازدياد شكوك دول المنطقة في توجهات إسرائيل وتطلعاتها إلى مد نفوذها وسيطرتها؛ وبما يقود إلى زيادة التعاون بين مجموعة من الدول العربية متقاربة التوجهات والمشاغل؛ ومن ثم تصبح عنصراً فاعلاً في توازن القوى الإقليمي.

 

2- إيران:

 بالرغم من أن طهران رفضت "الاستسلام غير المشروط" الذي اقترحه ترامب، وأثبتت قدرتها على استهداف المدن الإسرائيلية حتى آخر أيام القتال؛ فإنه لم يكن من الوارد أن تدخل في مواجهة عسكرية مفتوحة مع الولايات المتحدة، فقررت قيادتها أن المصلحة الوطنية لبلادها تكمن في إنهاء الحرب.

وتبقى إيران بعد الحرب قوة إقليمية جريحة وضعيفة نسبياً، وخاصة بعد تآكل أذرعها في المنطقة. والأرجح أن إيران سوف تسعى إلى ترميم نظامها الدفاعي لتعويض خسائرها، وإعادة بناء قدراتها العسكرية، وربما تصل إلى الاقتناع بأن الوصول إلى القنبلة النووية هو أهم ضمانة لحماية أمنها في المستقبل كما حدث في حالة كوريا الشمالية. وإلى حين حدوث ذلك، سوف تتبع تكتيكات غير متناظرة لإدارة الصراع مع إسرائيل.

وتتوقع إيران أن تُسفر المفاوضات مع الولايات المتحدة عن إنهاء بعض العقوبات الاقتصادية أو الإفراج عن أرصدتها المالية المُجمدة؛ مما يتيح للاقتصاد الإيراني فرصة للانتعاش، وزيادة صادراته من النفط. في المقابل، فإنه إذا قبلت الحكومة الإيرانية المطلب الأمريكي بعدم تخصيب اليورانيوم على أراضيها، واستخدمت المعارضة المعلومات المتاحة عن إبلاغ طهران السلطات الأمريكية عن موعد وهدف الهجوم على قاعدة العديد؛ فإن الرأي العام في طهران قد ينفض عنها وينقلب عليها، ويختار حكومة من التيار المتشدد في الانتخابات القادمة.

 

3- الولايات المتحدة:

 أثبت واشنطن أنها القوة الدولية الوحيدة القادرة على حسم الصراعات في الشرق الأوسط، وشريك أساسي في توجيهها بما يتفق مع سياساتها ويخدم مصالحها، وذلك مقارنةً بالدور المحدود لكل من روسيا والصين. ومن المُرجح أن واشنطن سوف تسعى لفرض وجهة نظرها على طهران في القضايا محل الخلاف مثل تخصيب اليورانيوم، ودور الوكالة الدولية للطاقة الذرية في الرقابة والتفتيش؛ وذلك مقابل حوافز مالية واقتصادية.

 

4- الدول العربية:

أدانت الدول العربية الهجوم الإيراني على قطر، واعتبرته مساساً بسيادتها، وربما أدى هذا إلى إحياء الشعور في بعض العواصم العربية بخطر القوة العسكرية الإيرانية واحتمال استخدامها ضد العرب أو على الأقل كعنصر مساند لتدخلها في الشؤون الداخلية العربية. وسبق ذلك إدانة الدول العربية للهجوم الإسرائيلي على إيران، واعتباره عدواناً على دولة ذات سيادة، فضلاً عن دعواتها المُتكررة إلى التهدئة ووقف إطلاق النار، والمطالبة بعدم تصعيد الصراع، والعودة إلى مائدة المفاوضات. وبالفعل رحبت الدول العربية بوقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران، لإنهاء أعمال التدمير ومنع مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، ومنها المخاوف من توظيف أنصار تنظيمات الإسلام السياسي التي تؤمن باستخدام العنف، للأوضاع الإقليمية الحالية في نشر أفكار التطرف والإرهاب، وتهديد الاستقرار السياسي في المنطقة.

 

مستقبل المنطقة:

ترسم هذه الملامح صورة قلقة، وغير مريحة لمستقبل الشرق الأوسط في الأجل القصير، فالطرفان المتحاربان احتفل كل منهما بالنصر في الميادين العامة، وما زالت التصريحات المتشددة تتردد على ألسنة قادة إسرائيل وإيران. وعمقت الحرب مشاعر الشك وعدم الثقة، وأوجدت مصادر لعدم الاستقرار الإقليمي، وسوف يزيد من ذلك شعور إسرائيل بالزهو بتحقيق الانتصار وسعيها لفرض ما تعتقده على إيران ودول المنطقة. ويبدو أن العنصر الحاسم في هذا الشأن هو موقف الرئيس ترامب وقدرة ممثليه على إدارة المفاوضات بشكل متوازن. ومن المُرجح أن يكون للدول العربية القريبة من واشنطن دور مهم في دعم هذا التوجه.

واتصالاً بذلك، ربما يؤدي وقف إطلاق النار بين إسرائيل وإيران إلى إعطاء دفعة للإسراع بعقد اتفاق مماثل يُنهي القتال والتدمير في قطاع غزة، ويضع الأساس لإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي باعتباره مصدراً لكثير من التوترات في الإقليم.

ويعتبر كثير من الدبلوماسيين والخبراء والباحثين، ومنهم هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الراحل، أن منطقة الشرق الأوسط هي "مرجل الصراعات في العالم"، والتي يتسم كثير منها بأنها صراعات اجتماعية ممتدة، تبدو مستعصية على الحل، واستمرت هذه السمة لصيقة بالمنطقة، على الأقل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؛ ومن ثم فإن الحديث عن عدم استقرار المنطقة واستمرار مصادر الخطر والتهديد فيها، ليس جديداً؛ لكن الجديد هو حجم الخسائر المادية والبشرية المترتبة عليها، ووجود مجموعة من دولها التي قررت الاستثمار في التنمية والسلم.

 

ختاماً،

 ربما يكون من المناسب الآن إثارة موضوع الحاجة إلى وجود نظام أمن جماعي إقليمي، يتضمن إجراءات وآليات بناء الثقة بين دول المنطقة، وبحث جذور الصراعات المزمنة التي تستخدم كمرجعية في إطار صراعات أخرى.

*أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة


29/06/2025