التعليم بين الورقة والذاكرة الرقمية: جيلان لا يلتقيان!
*د. طلال ناظم الزهيري
في خطوة أثارت الكثير من الجدل، أعلنت السويد عن توجهها للعودة إلى استخدام الورقة والقلم في التعليم، معتبرة أن الأدوات التقليدية أكثر فاعلية في ترسيخ المهارات الأساسية لدى الطلبة. وبينما يرى البعض في هذا القرار محاولة لاستعادة "الزمن الجميل" للتعليم، فإن الواقع المعاصر بكل تحولاته الرقمية يطرح تساؤلاً مشروعاً: هل يمكن فعلاً العودة إلى الوراء في عالم تحكمه التكنولوجيا وتتشعب خيوطها في تفاصيل حياتنا اليومية؟
إن الدعوة للعودة إلى الورقة والقلم، رغم نواياها التربوية، تذكرنا بكلمات أم كلثوم حين غنت: "عايزنا نرجع زي زمان، قل للزمان ارجع يا زمان". فالزمن، بكل ما فيه من تحولات، لا يعود إلى الوراء، كما أن النظم التعليمية لا تنفصل عن سياقها الزمني والتقني. فكيف يمكن للتعليم أن يعزل نفسه عن هذا المحيط الرقمي المتسارع الذي أصبح فيه الطفل يتعامل مع الشاشة قبل أن يتقن الإمساك بالقلم؟
لكن ما يجب أن يُفهم بوضوح هو أن الخلل الحقيقي في المنظومة التعليمية – من منظور الكثير من التربويين والباحثين – لا يكمن في استخدام التكنولوجيا، بل في الطريقة التي تم بها دمج هذه الأدوات داخل نظام تعليمي ما زال يعتمد على فلسفة تقليدية في التفكير والتقييم والقيادة. لقد استبدلنا القلم باللوح الذكي، والكتاب بالمحتوى الرقمي، والمعلومة بالبحث السريع، دون أن نغير جذرياً في جوهر العملية التعليمية أو أهدافها أو حتى طرائق التدريس نفسها. إن ما حدث هو أننا أدخلنا أدوات حديثة على نظام قديم، دون إعادة تصميم حقيقية أو مراجعة شاملة لمبادئ التعليم ذاته. فكانت النتيجة أشبه بمحاولة تشغيل محرك يعمل بالغاز باستخدام وقود البنزين، ثم نلوم المحرك حين يتوقف! وهذا بالضبط ما نفعله عندما نحمل التكنولوجيا مسؤولية تراجع التحصيل أو ضعف المهارات، متناسين أنها مجرد وسيلة، لا يمكن أن تُحدث فرقاً إذا بقي الإطار العام للعملية التعليمية كما هو، متمسكاً بالتحفيظ والتلقين والمعايير الكمية البحتة لقياس النجاح. فالتكنولوجيا في ذاتها ليست المعضلة، بل الطريقة التي نوظفها بها، والسياق الذي نُسقِطها فيه، والهدف الذي نسعى من خلالها لتحقيقه. لذلك، فإن العودة إلى الورقة والقلم لن تحل الأزمة، ما لم نراجع الأسس التي بُني عليها نظامنا التعليمي، ونعيد النظر في علاقته بالواقع، باحتياجات المتعلم، وبالوظائف التي نُعدّه لها في عالم لا يتوقف عن التغير. ولعلنا ندرك تماماً أن هناك فجوة حقيقية بين جيل المعلمين وجيل المتعلمين، فجوة لا تتعلق فقط بالوسائل والأدوات، بل بالتفكير والثقافة والإيقاع العام للحياة.
فالمعلمون الذين نشأوا وتعلموا في بيئة تعتمد على الورقة والقلم والسبورة التقليدية، غالباً ما يشعرون بالحنين لتلك المرحلة، ويعتقدون أن تفوقهم العلمي والمعرفي يعود إلى بساطة تلك الأدوات ومحدوديتها، متناسين أن الأجيال السابقة لم تكن غارقة في كل هذا الكم الهائل من المشتتات التي تعصف اليوم بعقل المتعلم. لقد كانت الحياة أبطأ، وأكثر استقراراً، وكان الانشغال الفكري أقل بكثير، مما أتاح توجيه قدر كبير من الطاقة العقلية نحو التعلم والتركيز. أما اليوم، فالعقول الصغيرة تُهاجَم من كل اتجاه؛ إعلام رقمي، منصات تواصل، ألعاب إلكترونية، ضغوط اجتماعية، وتدفق معلوماتي لا ينقطع. وفي ظل هذا التشويش المستمر، فإن تقليص الحيز العقلي المخصص للتعلم لم يعد خياراً شخصياً، بل أصبح نتيجة حتمية لواقع معقد. من هنا، فإن الدعوة للعودة إلى الورقة والقلم، والطبشور والسبورة، لا تُعد حلاً حقيقياً، بل قد تشكّل خطراً على توازن المنظومة التعليمية، وتزيد من فجوة التفاهم والتفاعل بين المعلم والطالب. إن هذه العودة ليست فقط تجاهلاً لواقع الجيل الجديد، بل إصرار على تكرار وصفات قديمة في واقع لم يعد يشبه الماضي في شيء. بلغة أخرى، نحن لا نعيش أزمة أدوات، بل أزمة فهم لجيل مختلف تماماً في طرق تفكيره وتلقيه للمعلومة وتحفيزه نحو التعلم. وأي إصلاح تعليمي لا يبدأ من فهم هذا الجيل وتكييف الوسائل التعليمية لتتناسب مع واقعه، سيكون مجرد محاولة عبثية للعودة إلى الوراء، في زمن لا يتوقف عن المضي إلى الأمام. إن الإصلاح الحقيقي في التعليم لا يكمن في التمسك بأدوات الماضي أو التمادي في توظيف أدوات الحاضر، بل في القدرة على قراءة الواقع بوعي، وفهم طبيعة التحولات العميقة التي طرأت على المتعلم، وتقديم فلسفة تعليمية مرنة تتجاوز الأداة نحو الجوهر. فلسفة تُعيد التفكير في أهداف التعليم، وطرائقه، ومخرجاته، وتضع المتعلم في مركز العملية، لا كمتلقٍ سلبي، بل كفاعلٍ رقمي يتعلم من خلال التجربة، والتفاعل، والإبداع.
الورقة والقلم ليستا عدوين للتعلم، كما أن الشاشة والذكاء الاصطناعي ليسا منقذين بحد ذاتهما. المسألة أكبر من مجرد أدوات، إنها تتعلق بكيفية توظيفها ضمن بيئة تعليمية تستوعب التنوع، وتحتضن الفروق الفردية، وتمنح الأجيال الجديدة مساحة لفهم العالم بلغتهم هم، لا بلغة آبائهم وأجدادهم. وفي النهاية، فإن دعوة "الزمن للرجوع" قد تبدو شاعرية، لكنها غير قابلة للتحقق. فالتعليم الذي نحتاجه اليوم هو تعليم يتقدم مع الزمن، لا يحنّ إليه. تعليم يعترف بأن لكل جيل أدواته، ولكل زمن لغته، وأن التقدم لا يكون بالعودة إلى الوراء، بل بإعادة التوازن بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحكمة التقنية والبصيرة التربوية.
25/05/2025
|